أمطرت السماء هذه الليلة بعنف و هبت ريح باردة قوية جعلت ستائر النافذة تتطاير كشبح مقيد يحاول الفكاك من أسره في جنون ، فأسرعت و أوصدت النافذة و جلست بجوار المدفأة طلباً الدفء ، و لم أدري بأن هذه الأجواء ستثير في نفسي ذكريات مؤلمة حاولت تناسيها من فترة طويلة و برغم هذا وجدتني أسترجع تلك الذكريات الحبيبة على قلبي .
كان ذلك قبل خمس عشرة عاماً أو يزيد ، كنت قد أنهيت دراستي الثانوية في قريتي بمجموع رائع فرح له والداي كثيراً و شجعهما ذلك على إكمال دراستي الجامعية بالعاصمة للحصول على شهادة الهندسة لأصبح صاحب لقب المهندس بعدما سبقني به أخي الأكبر و صار مهندساً كبيراً يعمل في إحدى دول الخليج ، و لا أخفيكم سراً أن مساعدة هذا الأخ الطيب كانت أكبر فرصة لي للدراسة في ظل سوء الأحوال المعيشية التي كنا نعيشها في قريتي ، و هكذا سافرت إلى القاهرة و قد ساعدني أحد معارف الأسرة في إستئجار شقة صغيرة في الطابق الثاني لبيت تقطنه عائلة طيبة و ملتزمة و كان ذلك بعد توصيات و تأكيدات و إلحاح شديد من هذا الرجل على العائلة الذين قبلوا بي في الأخير بعدما شاهدوني و جلسوا معي و تعرفوا على شخصيتي ، و مضت الأيام و غرقت في الدراسة حتى النخاع و كانت علاقتي بهذه الأسرة ضعيفة بحيث أكتفينا بتبادل التحية عند اللقاء و عرفت بعدها أنهم اطمأنوا لي كثيراً ، وفي أحد الأيام الباردة كنت ذاهباً إلى الجامعة باكراً و فجأة إسترعى إنتباهي مجموعة من الشباب الفاسد يحومون حول فتاة محتشمة تحمل في يديها كتبها و لكن على قدر عظيم من الجمال و كانوا قد زادوا في غيهم مما جعل الفتاة تصرخ فيهم ناهرة و هم يضحكون و يتمازحون حولها كالكلاب الضالة مما أثار الدم في عروقي فأتجهت إليها و طلبت منها أن تأتي معي فنظرت إلى نظرة قصيرة و أحسست من نظراتها كأنها تعرفني من قبل و هزت رأسها بالموافقة و أستفز ذلك أحدهم فحاول منعها فأمسكت بيده التي أمتدت و عاجلته بلكمة في وجهه و لم أعلم أن ذلك سيؤدي إلى معركة قوية غير متكافئة و خلاصة الأمر أنني إشتبكت معهم و أظنني أستبسلت في العراك و لكن الكثرة تغلب الشجاعة فمع أنني تمكنت من بعضهم إلا ضربة غادرة على عنقي من الخلف أدارت رأسي و أحسست الدماء تكاد القفز من عيناي و سقطت على الأرض كالحجر و أخر ما أذكر هروبهم و صرخات الفتاة الملتاعة و هي تمسك برأسي و عيونها الجميلة تغرق وجهي بالدموع الغزيرة و بعدها أظلمت الدنيا تماماً من حولي ..
(2)
أفقت على صوت همهمات كثيرة غير مفهومة فنظرت حولي في حيرة في بادئ الأمر و أتضحت لي الصورة بعد ذلك فقد كنت مستلقياً على فراش وثير في غرفة غريبة عني و قد كان حولي بعض الأشخاص عرفت منهم جيراني الطيبين و طبيب إعتدل ليؤكد لهم بأنني بخير و ليس هناك ما يدعو للقلق من بعض الرضوض البسيطة – المفتري كل ذلك الضرب و رضوض بسيطة – وقد كنت أحس و كأن قطار بخاري قديم سار فوقي و حولني إلى أشلاء لا تصلح كقطع غيار بشرية ، المهم هنأني الجميع على سلامتي بكل حنان و طيبة و قد بالغوا في إمتداحي ووسط هذه المجموعة الصغيرة أبصرت وجهاً يناضل من أجل إختراق هذا الزحام الصغير بلهفة و شجون و تبين لي هذا الوجه الرقيق ذو العيون الساحرة فقد كان هو وجه الفتاة التي تعاركت من أجلها ، و في خطوات خجلى تقدمت لتشكرني بحرارة و أحسست بقلبي يخفق بشدة و دمائي تندفع بقوة في عروقي و كأن طاقتي رجعت مرة واحدة و كانت المفاجأة عندما تحدث صاحب البيت و قال لي بأنها أبنته الكبيرة الطالبة في الجامعة و أنها صرخت طلباً للنجدة بعد معركتي الرائعة مع أولئك الشبان و ضحك في سعادة و هو يقول لي أنها بقيت تبكي بجواري حتى جاء الطبيب و أكد لها أنني ساكون بخير و نظرت لها في تلك اللحظة و تلاقت نظراتنا مما جعل الدماء تندفع إلى وجهها خجلاً و غمغمت ببعض الكلمات في إستحياء شديد و أنسحبت من الغرفة في سرعة و إرتباك ، و المهم أن العائلة اعتبرتني أبنها لأن الوالدين لم يرزقا إلا ببنتين أحدهما الكبرى و هي سهاد الطالبة سنة أولى بالجامعة و الثانية آمال التلميذة بالمرحلة النهائية الثانوية ، و مضت الأيام بعد ذلك و قد توطدت علاقتي بهم و كانا يزورانني من فترة إلى أخرى و يطمئنا على صحتي و يلحا في أي مساعدة لي و أبادرهم بالشكر بإمتنان شديد و ذات صباح منعش كنت قاصداً إلى الجامعة و لم أنتبه إلا و أنا وجهاً إلى وجه مع أرق وجه رأته عيناي .. معها … مع سهاد …
(3)
دق قلبي بعنف عندما تلاقت عيوننا في خجل و إرتباك و بادرتني هي بالسلام فرددت عليها تحيتها و و بابتسامة خجلى قالت بأنها تعرفني عندما رأتني صدفة و أنا أصعد لشقتي في الأعلى و أيضاً أخبرتني بأننا زملاء دراسة في نفس التخصص و في إرتباك شكرت لها كلماتها الرقيقة و أكدت لها أنني رهن إشارة العائلة في أي وقت و افترقنا متجهين إلى الجامعة ، و مرت الأيام سريعة وقد توطدت علاقتي بالعائلة كثيراً و كانت هناك أحداث وقفت فيها معهم وقفات مشرفة كأنهم عائلتي مما عزز من حبهم و شأني عندهم و بالنسبة لسهاد كانت خيوط الإعجاب و المحبة قد غزلت بين قلبينا و لم أجرؤ يوماً على التصريح بذلك حفظاً لشرف من استأمنوني على أنفسهم ، و لكن كنت أحس بمدى ما وصل الإعجاب و الحب بين قلبينا وكم صار مؤكداً أن سهاد هي حلم حياتي الذي سأناضل من أجله بأي ثمن كان ، و مرت السنين و تخرجنا معاً من الجامعة و في إحتفال صغير لم شمل العائلة تبادلت يومها أول حديث مع سهاد و عرضت عليها الزواج بعدما بحت لها عن شعوري و يومها لن أنسى تلك الوجنتان الرائعتان اللاتي تخضبن بحمرة الخجل و هي تبتسم في سعادة أكد لي صدق إحساسي و حبها لي مما جعلني أكاد أطير من السعادة ، و لم تمض أيام قليلة بعدها حتى جاء الخبر من أخي الطبيب المقيم بالخليج بأنه قد وجد لي عملاً رائعاً في السعودية و أيضاً لسهاد بحكم أنني سأطلب يدها من والديها و لم أكد أنتهي من قراءة أخر سطر في الخطاب حتى قفزت خارجاً كالملسوع لأبشر العائلة و أيضاً لأبشر أحب مخلوقة إلى قلبي سهاد ، و فعلاً ألتقيت بوالديها و بشرتهم بهذا الخبر ، و بفرحة غامرة طلبت يد سهاد منهم و كانت سهاد تسترق السمع لنا و هي تكاد تطير فرحاً و بإبتسامة عريضة سألتهم عن رأيهم و بحرج شديد تنحنح والدها و أخبرني بأنه لا يمانع في زواجي منها من حيث المبدأ و لكن لا يستطيع أن يترك أبنته تغترب بعيداً عن أسرتها و لن يكونوا مرتاحين لهذا الأمر ، و حاولت معهم مراراً و أكدت لهم بأنني سأضع سهاد في عيوني و أهتم بها غاية الاهتمام و لن أتركها للحظة وحدها و سنزورهم كل عام و نكون معهم دائماً و لكن لم يجدي هذا نفعاً و عجزت عن النطق بأكثر من هذا أمام رفضهم القاطع و قمت كسير الفؤاد تكاد تفر الدمعة من عيني و خامرني شعور غامر باليأس لم أحس به من قبل و يبدو أن هذه الحادثة قد جعلت الأمور تبدو سيئة فقد مرضت سهاد جداً بعد ليلة من النقاش و الرجاء لوالديها بدون أي فائدة و صار الأهل يحذرون الإحتكاك بي و بعد شهرين من هذه الحادثة جاءتني وثيقة السفر و يعلم الله كم أحسست كأن ناراً تحرق صدري و قلبي و عند اللقاء الأخير لوالديها للوداع و إصرارهم الصارم على رأيهم فرت دموع الحزن من عيناي لانت لها ملامح و الديها و أنهار قناع الصرامة ليحل معه مشاعر فياضة من الحنان الأبوي من والديها حتى بكت الأم و كأنها تودع إبنها و في حزن شديد غادرت متمنياً لو أرى سهاد ولو للحظة و لكن يبدو أنها منعت من ذلك و قبل خروجي من باب المنزل سمعت صوت نحيب و أنين و عرفت مصدره على الفور ، لقد كان بكاء الفراق ، بكاء سهاد ..