في العصر الحديث الوسيط ما بين 10،000 - 8،000 سنة ق.م ظهر النطوفيون في فلسطين، وجاءت تسميتهم نسبة إلى وادي النطوف غربي القدس، وتعتبر الحضارة النطوفية الحضارة الأولى عن طريق تقدم الإنسان وارتقائه، فمن خلالها وصلت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين قمتها، فبعد أن بلغ النطوفيون درجة عالية من التقدم وضع الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف الجذري والأهم في تاريخ البشرية، إلا أن أهم ما امتازت به هذه الحضارة انتقالها بالإنسان من مرحلة الصيد وجمع الطعام إلى مرحلة الزراعة وتدجين الحيوان، وبذلك تحول من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد الإنتاجي، وكان القمح والشعير أول ما زرع الإنسان . وتفيد المراجع التاريخية عدم وجود أي دليل على ممارسة شعب آخر غير النطوفي للزراعة في مثل هذا العصر البعيد .
وحول تتبع أفضال الزراعة على الرقي البشري، يرى العالم التاريخي "غولايف" في كتابه (المدن القديمة) أن الزراعة وتدجين الحيوان والتبديلات المرتبطة بهما قد حولت بوضوح - أكثر من أي شيء آخر - ظروف تطور الحضارة البشرية ،وغيرت بيئة الإنسان الطبيعية .
ارض الحضارات
و تؤكد الدراسات التاريخية أن الأيام والقرون والحقب تقف منحنية الهامة أمام دور النطوفيين في ارتقاء البشرية ، وقد ظل الإنسان الفلسطيني يخترع الحضارة تلو الأخرى ، كلها حضارات عريقة اتصلت مع غيرها من الحضارات الإنسانية.
وتشير الدراسات أنه في الألف الخامسة ق.م دخلت فلسطين في طور جديد من أطوارها حين وفد إليها من قلب الجزيرة العربية قبائل العموريين والكنعانيين ومعهم اليبوسيين الذين تفرعوا عنهم ، وقد فرض الوافدون الجدد أنفسهم على سكان البلاد الذين ذابوا فيهم على مر الزمن ، وفيما بعد طبّعوا البلاد بطابعهم الخاص وحملت البلاد أسماءهم .
وفي ذلك يقول "مظفر الإسلام خان" في كتابه - تاريخ فلسطين القديم - "إن الأرض الفلسطينية الواقعة جنوبي سورية هي أرض صنعت التاريخ وصنع فيها التاريخ، وقد أطلقت شعوب كثيرة على هذه الأرض أسماء كثيرة، ولعل أقدم هذه الأسماء أسماء "خارو" للجزء الجنوبي، و"رتينو" للجزء الشمالي، اللذين اطلقهما قدماء المصريين، وقد تكون كلمة "رتينو" تحريف كلمة سامية، أما خارو أو خورو فقد تكون تحريفاً لكلمة (حوري) وهم الحواريون المذكورون في التوارة.
أرض كنعان .. توالي التسميات
ويفيد المؤرخون أن التسميات لهذه البقعة من الأرض قد توالت ليطلق عليها فيما بعد "أرض كنعان" أو كنعان، كما نصت عليها تقارير قائد عسكري عند ملك -ماري- ووجدت بوضوح في مسألة "أدريمي" - ملك الالاح - تل العطشانة من منتصف القرن الخامس عشر ق.م.
ويرى المؤرخون من النصوص المختلفة أن الأرض الفلسطينية ممتدة بين سيناء جنوباً وغور الأردن شرقاً، وقد استعمل الإغريق هذا اللفظ بادئ الأمر للدلالة على المنطقة الساحلية ، حيث تتركز صيغة التسمية عند المؤرخ اليوناني "هيرودوتس 484 - 425 ق.م على أسس آرامية بالستاين ويرى "هيرودوتس" أحياناً في دراساته أن هذا اسم يطلق على الجزء الجنوبي من سورية أو سورية الفلسطينية بجوار فينيقية وحتى حدود مصر .
وقد استعمل هذه التسمية الذين اتبعوه من كبار المؤرخين أمثال : سترابو وديودوروس وبطليموس وبليني، ومع مرور الزمن حل اسم بالتسين محل الاسم الشامل سورية الفلسطينية ، وقد أصبح اسم فلسطين في العهد الروماني ينطبق على جميع الأرض المقدسة ، وقد صك الإمبراطور فسباسيان هذا الاسم على نقوده التي أصدرها عقب قهره لليهود عام 70م ، وبذلك أعطاها الصفة الرسمية ، وورث البيزنطيون هذا الاسم عن الرومان، ومن بالستين انبثقت كلمة فلسطين العربية .
الحق الفلسطيني يؤكده التاريخ
ومن خلال استقراء أسماء فلسطين طوال تاريخها العريق يتضح بجلاء أن الإنسان الفلسطيني قد امتلك هذه البقعة من الأرض من حوالي المليون ونصف المليون سنة خلت، ولم ينقطع عنها في يوم من الأيام حتى يومنا هذا، إنه أقدم امتلاك على وجه الأرض باستنثاء الدليل الوحيد - الذي لا يركن له صدقه - وهو الدليل التوراتي الذي تدلل المكتشفات الأثرية على ضعف ووهن وانهيار حججه التاريخية، الأمر الذي جعل الكثيرين يعيدون النظر في إعادة كتابة تاريخ فلسطين، بحيث يكون لعلم الآثار دور أكثر أهمية في رسم الخطوط الموضوعية لهذه الكتابة .
في هذه الفترة كانوا يقدسون أسلافهم، حيث عثر على مجموعة من الجماجم المفصولة عن هياكلها العظمية في أريحا تعود إلى هذا العصر، كما أنهم عبدوا القمر لأنه أكثر نفعاً وتلطفاً من الشمس في بلاد حارة وجافة مثل فلسطين. عثر المنقبون في كهوف الكرمل على رسم لثور حفر بأدوات عظمية على قطعة من الحجر الطباشيري منحوتة على صورة رأس إنسان. تتمثل حضارة سكان فلسطين في هذا العصر بالأدوات الحجرية المصقولة وبالصحون الحجرية والهواوين والمداق والمناجل الصوانية المثبتة على قبضة خشبية، والتي يظن أنها كانت تستعمل لحصاد القمح. عثر المنقبون على الكثير من هذه الأدوات في مغارة شقبا وفي أريحا ومناطق أخرى. معظم الأدوات الصوانية في أريحا مصنوعة من مادة السبج (الأوبسديان) وهي مستوردة من بلاد الأناضول. ويستدل من هذه الأدوات على أن سكان فلسطين هم أول من مارس الزراعة في العالم. عهد الناس في هذا العصر بالمهنة الجديدة إلى نسائهم وأولادهم، أما الرجال فقد ظلوا منصرفين إلى أعمال الصيد والرعي والغزو. زرع السكان القمح والشعير والدخن، وهو نوع من الذرة، ثم زرعوا العنب والتين والزيتون وأنواعاً من الخضراوات(يتبع)